الثلاثاء، 31 مايو 2011




كانت الأخت ليلى شابة فى مقتبل العمر لا تتميز بحسب الظاهر بميزة تبرزها عن الآخرين بل على العكس تماماً، كانت طبيعية فى كل شىء. لم تكن خادمة فى مدارس الأحد و لم يكن لها دور بارز و لا اسم رنان، بل كانت شابة عادية من شابات الكنيسة بالقاهرة تزوجت بقريب لها بالإسكندرية و سكنت مجاورة لكنيستنا و كانت تحضر إلى القداسات و العشيات قليلة الإختلاط بالناس، و كانت من حين لآخر تأتى معترفة لله أمامى أثناء العشيات.

و كنت أحسد هذه الأخت- إن صح هذا التعبير- على نقاوة قلبها و شفافية روحها، و كيف رغم إنها صارت أماً لطفلين، مازالت تحتفظ بهذا القلب البرىء و النفس التى لم تتسخ بالعالم.

كانت فى حياتها الزوجية مثالاً رفيعاً للإخلاص و المودة و قد نفذت وصية الرب " لا تغرب الشمس على غيظكم" نفذتها حرفياً، حتى إنه لم يمض يوم واحد و هى فى خصام مع زوجها، بل عندما كان يحدث شىء من سوء الفهم كانت تسرع إلى الغفران و الصفح فكان أن ظل قلبها نظيفاً نقياً، ألم يقل الرب طوبى لأنقياء القلب!

كانت بنتها الكبرى أربع سنوات، و كان طفلها الصغير ابن سنتين و كان متعلقاً بها بشكل منقطع النظير، و كانت هذه الظاهرة محل حديث الكثيرين ممن حولها، و لأن الطفل ما كان يستطيع أن يفارقها لحظة واحدة، حتى إنها ما كانت تستطيع دخول الحمام بدونه كان الأهل يبدون قلقهم لهذا الوضع، أما هى فكانت هادئة دائماً مملوءة سلاماً لا يزعجها شىء.

حضر زوجها من العمل بحسب عادته بعد الظهر فوجد كل شىء فى المنزل كالعادة جميلاً نظيفاً، و قد أعدت الطعام و رتبت المائدة. تناولوا الطعام، و ارتاح الزوج قليلاً ثم قام و تهيأ للخروج للعمل فى الفترة المسائية، و لكنها قالت له لا تنزل اليوم فتعجب جدا و سألها لماذا؟

- أجابته أنا عاوزاك.

- ماذا تريدين؟ ألا تعلمين إنى مرتبط بالعمل و لا أستطيع أن أتأخر؟

فلما شددت عليه الطلب و زاد هو فى الإستفسار. قالت له أنا سأموت اليوم. فكاد يشل تفكيره و هو واقف أمامها فى ذهول مطلق، ما هذا الكلام؟ إنك فى كامل الصحة و ريعان الشباب. قالت فى هدوء أرجوك هذا ما سيحدث.. و لم تكد تنطق بهذه الكلمات حتى جلست على كرسى كان بجوارها و شحب لونها فى لحظات و غابت عن الوعى.

وقف الزوج فى ذهول مما يحدث حوله يكاد لا يصدق إنه فى صحوه، و بدأ يصرخ و الأطفال حوله فى منظر مأساوى للغاية.

و بدأ يضرب بيده على خدها لعلها تفيق من اغمائها، فإذا بها تفتح عينها ثم تقيأت و تنفست و عادت إلى وعيها. كاد الزوج يطير من الفرح، و قال لها نشكر الله إنك بخير، لقد كدت أجن منذ لحظات.. فقاطعته قائلة اسمع لقد مت فعلاً و ذهبت إلى الفردوس و تقابلت مع كثير من الذين انطلقوا، و تكلمت مع بابا ( و كان قد سبقها إلى السماء منذ سنوات ) و قال لى لا يابنتى إنتى صغيرة و اطفالك صغار، عودى . و لكن لا أنا عارفة إنى سأموت- السماء جميلة. أرجوك تمسك بالله و احفظ وصاياه و ربِ الأولاد فى مخافة الرب.

و إذ قالت هذا رقدت فى الرب، حاول الرجل أن يعمل كل ما فى طاقة البشر أن يعملوه و لكن الأمر كان قد صدر من قبل الرب.

كان الجميع بعد ساعات فى المنزل، و كان إلى جانب هذه الأحداث المفجعة موضوع يطرح نفسه بشدة و قسوة الطفل الصغير شديد التعلق بأمه و تصور الغالبية من الحاضرين أن هذا الطفل سوف لا يستطيع البقاء بعد أمه، سوف يموت من الحزن عليها الذى لم يحتمل غيابها لحظات كيف يحتمل غيابها للأبد؟

لكن الله العامل، لكى يكرم هذه الأخت البارة و يعزى من حولها بأنها و هى فى السماء تستطيع أن تخدم أطفالها و تشفع فيهم أعطى هذا الطفل الصغير سلاماً و برودة فلم يطلب أمه و لا بكى. و قد أعادت هذه الأحداث إلى الذهن قصة إحدى الشهيدات التى وضعت طفلها فى السجن على ذمة الإستشهاد فإحتجز الحراس طفلها و كانوا لا يطعمونه لمدة يوم كامل و يأتوا بالطفل و هو يصرخ أمامها لكى يثنوها عن إيمانها و يؤثروا على عاطفتها كأم، فكانت هى تصلى بحرارة فكانت النعمة تشبع الرضيع فلا يصرخ.

تكرر هذا العمل الإلهى المعجز بصورة ما فى حياة هذه الأسرة، حتى بعد شهور من إنطلاق الأم عندما كانوا يعرضون بعض الصور الفوتوغرافية أمام الطفل كان يتعرف على جميع من فى الصور من القارب و يناديهم بأسمائهم إلى أن يأتى إلى صورة أمه و كأنه لا يعرفها، فكان يصمت و لا يجيب، و عاش طفلاً طبيعياً و قد سكب الرب فى قلبه و قلب باقى الأسرة عزاءاً فوق العادة و كانت قصة إنطلاق هذه البارة سبب توبة و عزاء للكثيرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق